عندما حل «يوم القديس باتريك»، 17 مارس الجاري، رأينا كل تعبيرات الفخر بالإرث الثقافي الأميركي الإيرلندي؛ من السترات الخضراء والخبز المخمر التقليدي إلى الموسيقا الإيرلندية إلى الاستعراضات الملونة. هذه الاحتفالات تبعث برسالة لا مفر منها: إن الإيرلنديين معتزون بإرثهم وبفكرة أنهم ساهموا مساهمة فعالة في بناء أميركا. وقد يبدو أن الفخر الإيرلندي والوطنية الأميركية متلازمان.
لكن الأمور لم تكن دائماً على هذا النحو. ففي أواخر القرن الـ19، كان الأميركيون يكرهون الإيرلنديين كمجموعة سكانية مرتبطة بالفقر والجريمة و«الكاثوليكية المخيفة»، وبشيء آخر: الإرهاب. فقبل أن يبدأ الأميركيون في ربط المهاجرين المسلمين بالإرهاب بوقت طويل، كانوا ينظرون إلى الإيرلنديين على أنهم إرهابيون يهددون الأمن الوطني الأميركي. أجل، إن مجموعة المهاجرين الذين يربطهم معظم الأميركيين اليوم بأسطورة «ليبريتشان»، و«حجر بلارني» و«جعة غينيس».. كانت قبل 150 عاماً تُسَبُّ وتُلعن باعتبارها عصابة من الإرهابيين الأجانب. وهذا يعلّمنا درساً قيماً حول إطلاق صور نمطية على مجموعات كاملة استناداً إلى أفعال قلة قليلة منهم، درسٌ يجدر بنا تطبيقه على أقليات اليوم.
صورة الإرهابي الإيرلندي ظهرت أول مرة في ستينيات القرن التاسع عشر. وقتئذ، كانت حركة قومية إيرلندية قد بدأت تتحدى الحكم الاستعماري البريطاني. فقد ضغط بعض القوميين الإيرلنديين في اتجاه الاستقلال، أو على الأقل الحكم الذاتي، من خلال التحرك السلمي والنشاط السياسي. لكن فصائل أخرى، تعرف بـ«الفينيين» (نسبة إلى «فيانا»، وهو اسم مجموعة أسطورية قديمة من المقاتلين الإيرلنديين)، أو النشطاء والمحرضين، كانت تعتقد أنه لا يمكن نيل الاستقلال إلا من خلال العنف.
«الفينييون» عملوا سراً في إيرلندا. وفي الولايات المتحدة قاموا بجمع المال وتجنيد أعضاء من المهاجرين الإيرلنديين بشكل صريح. وقد ضم تجمع لهم في مدينة نيويورك عام 1866 أكثر من 100 ألف شخص. هؤلاء «الفينييون» حاولوا غزو أميركا الشمالية البريطانية، أو ما يعرف اليوم بكندا، بالقوة، لكن محاولاتهم أُحبطت جميعها وخابت في النهاية.
وفي أعقاب غزو كندا الفاشل، غيّر «الفينييون» الأميركيون الإيرلنديون في سبعينيات القرن التاسع عشر استراتيجيتهم. إذ بدلاً من حشد قوة شبه عسكرية، شنوا حملة تفجيرات واغتيالات استهدفت المسؤولين البريطانيين والمباني العامة في بريطانيا. وبين عامي 1881 و1885، وباستخدام أموال جمع معظمها في الولايات المتحدة، نفذوا أكثر من اثني عشر تفجيراً عبر بريطانيا العظمى. كما قاموا ببناء غواصة - لم يستخدموها أبداً- لإغراق السفن البريطانية.
ورغم أن كثيراً من المهاجرين الإيرلنديين والأميركيين الإيرلنديين، بل ربما معظمهم، لم يدعموا «الفينيين»، فإن خطة الغواصة، إلى جانب التفجيرات والاغتيالات ومحاولات غزو كندا، ولَّدت الكثير من الانتقادات القوية للإيرلنديين في الولايات المتحدة.
وانضاف إرهاب الإيرلنديين الأميركيين إلى الصورة النمطية القديمة للإيرلنديين باعتبارهم شعباً عنيفاً بطبعه والادعاء بأن الإيرلنديين لن يكونوا أبداً أميركيين صالحين. إذ من فرط هوسهم بوطنهم الأصلي، عرّضوا الأرواح الأميركية والأمن الوطني الأميركي للخطر في محاولة متهورة لنيل استقلال إيرلندا.
لكن ما الذي وقع لربط الإيرلنديين بالإرهاب؟ لقد بدأت أسباب ذلك تتلاشى وتختفي منذ أواخر القرن الـ19، خاصة مع اكتساب الشكل غير العنيف للقومية الإيرلندية (أي الحكم الذاتي)، قوةً وأهميةً أكبر، وكذلك مع ازدهار الأميركيين الإيرلنديين الاقتصادي ونجاحهم في ارتقاء السلم الاجتماعي.
كما تراجع في وقت بدأ فيه الأميركيون ينظرون إلى المهاجرين الألمان على أنهم التهديد الإرهابي الرئيسي، بسبب ربطهم بحركة الفوضويين. وفي أوائل القرن العشرين، انتقل تركيز الخوف إلى الفوضويين المهاجرين الإيطاليين الذين رُبِطوا بعدد من جرائم القتل والتفجيرات، ومن ذلك تفجير ضخم بوساطة قنبلة في «وول ستريت» عام 1920، أدى إلى مقتل 30 شخصاً.
تحسن الوضع الاقتصادي للأميركيين الإيرلنديين، إضافة إلى خدمتهم العسكرية الواضحة، ودعمهم القوي للحرب الباردة.. كلها عوامل أكسبتهم سمعةً باعتبارهم من المواطنين الأميركيين الأكثر وفاءً ووطنيةً واحتراماً للقانون في البلاد. وقد ظل هذا هو واقع الحال حتى في أواخر الستينيات والسبعينيات عندما غرقت إيرلندا الشمالية في عنف طائفي شمل تفجيرات واغتيالات موِّلت جزئياً من قبل أميركيين إيرلنديين. وبعد ذلك في التسعينيات، جاءت طفرة اهتمام شعبي بكل ما هو إيرلندي، من الرقص الإيرلندي التقليدي، إلى سياحة التراث الإيرلندي.
ولا غرو بالتالي ألا أحد، على ما يبدو، يتذكر زمناً ليس بالبعيد، عندما كان الأميركيون يربطون «يوم القديس باتريك» بالإرهاب الإيرلندي. والحال أنه حري بنا أن نستحضر هذا في عام 2019، ونحن نسمع الخطابَ المتطرف حول المهاجرين والإرهاب. في الماضي، نددنا بمجموعات بأكملها من المهاجرين استناداً إلى أفعال مجموعة صغيرة منهم. وفي كل مرة كان يضاف فصل آخر إلى تقليد مؤسف لهذا البلد في تقديم مصلحة سكان البلد وتأخير مصلحة المهاجرين. وللأسف، في هذه الأيام يبدو أننا نضيف فصلاً آخر.


*أستاذ التاريخ بكلية الصليب المقدس في ووستر- ولاية ماساتشوسيتس
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»